Translate

الاثنين، 25 مارس 2013

لن يمزقوا شملنا مادامت فينا أم علي // الدكتور ظافر العاني


لن يمزقوا شملنا مادامت فينا أم علي 
الدكتور ظافر العاني  

قبل أيام توفي حقي الكبيسي في حادث سيارة في منطقة راغبة خاتون ،، وهو من عائلةٍ هي عندي جار العمر . رجل في نهاية الثلاثين من عمره ، كان أكثر أخوته هدوءً والتزاماً بتقاليد الجيرة التي اعتدناها في محلة السفينة بالاعظمية ، وهو مكافح منذ ان كان فتى يافعاً ، وتولى إعالة أسرته بعد وفاة والده إسماعيل الذي كان من أكثر الرجال وداً وكرماً ، رجل بسيط ولا اعرف حتى الآن ان كان اسماعيل يحسن القراءة والكتابة أم لا ، لكن ما أنا متأكد منه قطعاً ، انه كان يحسن التعامل مع الناس مثل أي جنتلمان نراه في السينما .
ولقد منعتني التزاماتي السياسية ان احضر أيام العزاء الثلاثة ، فقد كنت حينها بين المعتصمين في الرمادي ، لكني ما أن عدت حتى ذهبت لبيتهم ، لمجلس عزاء السيدات ، ولاحرج عندي في ذلك ، أنهم أهلي ، وأمه وزوجته الشابة هم أولى بالعزاء من أي شخص آخر .
جلستُ بينهم معزياً ، ومواسياً ، واستقبلوني في بيتهم البسيط الذي عاصرته مذ كنت غضاً كما تستقبل الأسرة احد أبناءها ، وقبلت رأس أم حقي التي بدت متماسكة بفضل الله . وتطلعتُ في الوجوه مستذكراً ما أعرفه .
هذه أم فلاح العجوز التي لم تبارح الدمعة عينها منذ سنوات ، وتلك فاتن التي كانت جميلة المحلة وقد كبرت وبح صوتها من السجائر بعد اعدام زوجها في التسعينات ، وزوجة فلاح المهذبة ، ودلال ، ورغد ، وسمية ، وووو. وهذه من ؟
من تلك السيدة المهيبة في جلستها التي تتحدث بثقة وقوة ، وتلتف بعباءتها السوداء .
ياألله ، انها ام علي .
-
يمة ظافر شلونك ؟ الله يرحم والدتك .
-
أم علي يا أهلا وسهلاً ، البقاء لله . ما أخبارك وأخبار العائلة ، سمعت أنكم غادرتم المحلة منذ سنوات .
-
نحن الآن في كربلاء ، لكني لا اترك فرصة إلا وأزور الأحبة في السفينة . نحن عشرة عمر .
وعادت بي صور الذكريات الى الماضي لألتقط منها مايبعد عني شبح الهزيمة الوطنية التي تطاردني . فاسمعوها مني .
في نهاية السبعينات استأجرت أسرة بسيطة داراً متواضعة في محلتنا ، كان رب الأسرة بناءً توفاه الله في وقت مبكر بعد سنوات قليلة من وجودهم في المحلة ، وزوجته ( أم علي ) أصبحت فيما بعد عاملة ( معينة ) في كلية طب الأسنان لتعيل الأسرة . ولأن الأب والزوجة كانوا يرتدون الملابس التقليدية العربية ، اطلقوا عليهم ( بيت العرب ) وهذا هو الدارج في منطقتنا فلكل بيت لقباً يعرف به . ( ولن أقول لكم لقب عائلتي ) .
كانت أم علي صلبة العود ، قوية الشكيمة ، هي أشبه بشيخة عرب ، بحيث لم تستطع نساء المحلة من ( القويات ) لوي ذراعها يوماً ما ، وبالذات حينما تنشب المشاكل التي كانت تدور معظمها حول عركات الأبناء ، والطيور ، والطوبة التي يمزقها الجار عندما تقفز في بيته بالخطأ . كان يكفي ان تقف أم علي أمام بيتها لتدخل باقي النساء بيوتهن ويؤثرن السلامة ، رغم أني لم أرها يوماً تشتبك بالأيدي مع إحداهن ، او تتلفظ بعبارات نابية .
كان لأم علي ابناءً انسجموا مع الأولاد وقادوا عصابات المحلة البريئة ، لقطع الرارنج ، او النبق ، ودق اجراس البيوت وغيرها من أعمال الصبيان المعروفة ولكن بدون أذى واضح . وعرفت المحلة قدر أم علي الذي كان يكبر كلما كبر أولادها وقويت عضلاتهم .
عائلة أم علي شيعية وأصولها من كربلاء ، وكانت المحلة تقدر ذلك ، وتبذل كل صنوف المجاملة لها في الشعائر الحسينية ، وكانت هي بالمقابل تجامل الجيران في كل المناسبات ، وقد عشنا سوية متآلفين دون منغصات تذكر .
في بداية الاحتلال نظمتُ مع جيراني لجاناً للحماية الذاتية دفاعاً عن المحلة ولأجعل من ذلك أمثولة للآخرين ، وبالذات بعد تزايد أعمال السلب والنهب ، وكان من نصيب حسين ان يقف في نقطة الحراسة عند مستشفى النعمان وهو يحمل رشاشاً يذود به النهابون فيما لو فكروا بالاعتداء على المستشفى ، اما علي فقد كان يحرس مولدة الكهرباء التي وضعناها في بداية الاحتلال لتغذية المنطقة بالكهرباء ، بعدما جاءت أكثر من مجموعة تريد الاستيلاء عليها ليلاً .
ومع إشتداد الهجمة على الاعظمية من قبل المليشيات ، انخرط الشباب من أولاد ام علي في الدفاع عن محلتهم ، ويوماً ما ألقت السلطات الامنية القبض على حسين واقتادوه الى قصر صدام في كورنيش الاعظمية الذي كان معداً لأغراض الاعتقال ، وقد عذبوه لكي يعترف على إخوانه من أبناء محلته ، وهم يشجعونه على ذلك باستخدام الحس الطائفي ، لكن حسين رفض الإغراءات المذهبية ، وتحمل الضرب بالعصا ، والتعذيب بالكهرباء ، ولم يدلي باي اعتراف كاذب عن جيرانه وأصدقاءه ، كانت وطنيته الفطرية أعلى من شحنات الكراهية الطائفية ، وقد ذهبت ام علي بنفسها الى وزارة الداخلية والتقت باللواء جواد رومي وحاججته بكل قوة وصلابة وقد وعدها الرجل بإطلاق سراح ابنها ان لم يثبت التحقيق شيئاً ما ، وقد فعل ذلك بالفعل بعد أيام قلائل ومن يستطيع ان يرد طلباً لأم علي ؟ 
لكن المشكلة لم تكن في الأجهزة الأمنية الطائفية وإنما كذلك في الارهابيين الذين تسلقوا موجة الطائفية ، وقتلوا حسين بعد ذلك بأيام على الهوية لإثارة الفتنة ، قتلوه رغم انه دافع عن الاعظمية يوم كانوا ينامون في بيوتهم ، قتلوه رغم أنه لم يتجاوب مع السلطات الأمنية التي ضغطت عليه ليدلي بأخبار كاذبة عن الاعظمية والاعظميين .
وقد بكت محلتنا كلها دماً على استشهاد حسين ، وشيعته باعتباره واحداً من أبنائها البررة ، ولم تجد أم علي من خيار أمامها سوى الفرار بأبنائها الباقين الى كربلاء .
-
كيف أحوالكم في كربلاء ياأم علي ؟
-
غير مرتاحين ، ونحن هناك مثل الغرباء ، قلبنا يحن الى الاعظمية ومحلتنا السفينة ، انتم أهلنا .
والله يمة ظافر عندما أراك في التلفزيون أفرح من كل قلبي كأني أرى احد أولادي ولكني لا أقدر ان اقول ذلك ، انت تعرف الوضعية .
-
أعرف طبعاً ، المهم عندي ان تكوني انت وعائلتك بسلام .
ألا قاتل الله كل من أراد تمزيق صفنا وهدم وحدتنا .
بعد الاحتلال بثلاثة شهور ، وحالما عدت للبيت ، رأيت وجوما وجواً نفسياً لم اتعود عليه، ومحمد في حجر أمه .
-
ما الأمر ؟
قالت لي أم محمد :
اليوم أخذ أخوك أحمد ولدي محمد الى الشط للسباحة فيه دون علمي ، كان عمه يريد ان يلهو معه ويعلمه السباحة ، ولكن في غفلة منه غرق محمد في الماء دون ان ينتبه لذلك عمه الذي أخذ يصيح عليه بعدما افتقده ولكن دون جدوى ، وفجأة قفز ( علي ابن ام علي بيت العرب ) الى النهر وأنقذ محمد وهو في رمقه الأخير ، وراحت ام محمد تبكي وهي تحتضن ابنها
-
لقد أحضرت ذبيحة على سلامة محمد .
-
بيت العرب أولى بالذبيحة ، فلتذبح تحت قدمي علي . ( قلت لها ذلك )
اليوم دعني أسألك يا علي ابن بيت العرب وانت مهجراً في كربلاء ، غريباً هناك ، وبعيداً عن هنا .
هل فكرت يا علي أن من تنقذه من براثن الموت هو محمد ابن ظافر العاني ؟
او هو محمد ابن وطنك الكبير ، ووطنك الصغير ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق