لن يمزقوا شملنا مادامت فينا أم علي
الدكتور ظافر العاني
قبل أيام توفي حقي الكبيسي في حادث سيارة في منطقة راغبة خاتون ،، وهو من عائلةٍ هي عندي جار العمر . رجل في نهاية الثلاثين من عمره ، كان أكثر أخوته هدوءً والتزاماً بتقاليد الجيرة التي اعتدناها في محلة السفينة بالاعظمية ، وهو مكافح منذ ان كان فتى يافعاً ، وتولى إعالة أسرته بعد وفاة والده إسماعيل الذي كان من أكثر الرجال وداً وكرماً ، رجل بسيط ولا اعرف حتى الآن ان كان اسماعيل يحسن القراءة والكتابة أم لا ، لكن ما أنا متأكد منه قطعاً ، انه كان يحسن التعامل مع الناس مثل أي جنتلمان نراه في السينما .
ولقد منعتني التزاماتي السياسية ان احضر أيام العزاء الثلاثة ، فقد كنت حينها بين المعتصمين في الرمادي ، لكني ما أن عدت حتى ذهبت لبيتهم ، لمجلس عزاء السيدات ، ولاحرج عندي في ذلك ، أنهم أهلي ، وأمه وزوجته الشابة هم أولى بالعزاء من أي شخص آخر .
جلستُ بينهم معزياً ، ومواسياً ، واستقبلوني في بيتهم البسيط الذي عاصرته مذ كنت غضاً كما تستقبل الأسرة احد أبناءها ، وقبلت رأس أم حقي التي بدت متماسكة بفضل الله . وتطلعتُ في الوجوه مستذكراً ما أعرفه .
هذه أم فلاح العجوز التي لم تبارح الدمعة عينها منذ سنوات ، وتلك فاتن التي كانت جميلة المحلة وقد كبرت وبح صوتها من السجائر بعد اعدام زوجها في التسعينات ، وزوجة فلاح المهذبة ، ودلال ، ورغد ، وسمية ، وووو. وهذه من ؟
من تلك السيدة المهيبة في جلستها التي تتحدث بثقة وقوة ، وتلتف بعباءتها السوداء .
ياألله ، انها ام علي .
- يمة ظافر شلونك ؟ الله يرحم والدتك .
- أم علي يا أهلا وسهلاً ، البقاء لله . ما أخبارك وأخبار العائلة ، سمعت أنكم غادرتم المحلة منذ سنوات .
- نحن الآن في كربلاء ، لكني لا اترك فرصة إلا وأزور الأحبة في السفينة . نحن عشرة عمر .
وعادت بي صور الذكريات الى الماضي لألتقط منها مايبعد عني شبح الهزيمة الوطنية التي تطاردني . فاسمعوها مني .
في نهاية السبعينات استأجرت أسرة بسيطة داراً متواضعة في محلتنا ، كان رب الأسرة بناءً توفاه الله في وقت مبكر بعد سنوات قليلة من وجودهم في المحلة ، وزوجته ( أم علي ) أصبحت فيما بعد عاملة ( معينة ) في كلية طب الأسنان لتعيل الأسرة . ولأن الأب والزوجة كانوا يرتدون الملابس التقليدية العربية ، اطلقوا عليهم ( بيت العرب ) وهذا هو الدارج في منطقتنا فلكل بيت لقباً يعرف به . ( ولن أقول لكم لقب عائلتي ) .
كانت أم علي صلبة العود ، قوية الشكيمة ، هي أشبه بشيخة عرب ، بحيث لم تستطع نساء المحلة من ( القويات ) لوي ذراعها يوماً ما ، وبالذات حينما تنشب المشاكل التي كانت تدور معظمها حول عركات الأبناء ، والطيور ، والطوبة التي يمزقها الجار عندما تقفز في بيته بالخطأ . كان يكفي ان تقف أم علي أمام بيتها لتدخل باقي النساء بيوتهن ويؤثرن السلامة ، رغم أني لم أرها يوماً تشتبك بالأيدي مع إحداهن ، او تتلفظ بعبارات نابية .
كان لأم علي ابناءً انسجموا مع الأولاد وقادوا عصابات المحلة البريئة ، لقطع الرارنج ، او النبق ، ودق اجراس البيوت وغيرها من أعمال الصبيان المعروفة ولكن بدون أذى واضح . وعرفت المحلة قدر أم علي الذي كان يكبر كلما كبر أولادها وقويت عضلاتهم .
عائلة أم علي شيعية وأصولها من كربلاء ، وكانت المحلة تقدر ذلك ، وتبذل كل صنوف المجاملة لها في الشعائر الحسينية ، وكانت هي بالمقابل تجامل الجيران في كل المناسبات ، وقد عشنا سوية متآلفين دون منغصات تذكر .
في بداية الاحتلال نظمتُ مع جيراني لجاناً للحماية الذاتية دفاعاً عن المحلة ولأجعل من ذلك أمثولة للآخرين ، وبالذات بعد تزايد أعمال السلب والنهب ، وكان من نصيب حسين ان يقف في نقطة الحراسة عند مستشفى النعمان وهو يحمل رشاشاً يذود به النهابون فيما لو فكروا بالاعتداء على المستشفى ، اما علي فقد كان يحرس مولدة الكهرباء التي وضعناها في بداية الاحتلال لتغذية المنطقة بالكهرباء ، بعدما جاءت أكثر من مجموعة تريد الاستيلاء عليها ليلاً .
ومع إشتداد الهجمة على الاعظمية من قبل المليشيات ، انخرط الشباب من أولاد ام علي في الدفاع عن محلتهم ، ويوماً ما ألقت السلطات الامنية القبض على حسين واقتادوه الى قصر صدام في كورنيش الاعظمية الذي كان معداً لأغراض الاعتقال ، وقد عذبوه لكي يعترف على إخوانه من أبناء محلته ، وهم يشجعونه على ذلك باستخدام الحس الطائفي ، لكن حسين رفض الإغراءات المذهبية ، وتحمل الضرب بالعصا ، والتعذيب بالكهرباء ، ولم يدلي باي اعتراف كاذب عن جيرانه وأصدقاءه ، كانت وطنيته الفطرية أعلى من شحنات الكراهية الطائفية ، وقد ذهبت ام علي بنفسها الى وزارة الداخلية والتقت باللواء جواد رومي وحاججته بكل قوة وصلابة وقد وعدها الرجل بإطلاق سراح ابنها ان لم يثبت التحقيق شيئاً ما ، وقد فعل ذلك بالفعل بعد أيام قلائل ومن يستطيع ان يرد طلباً لأم علي ؟
لكن المشكلة لم تكن في الأجهزة الأمنية الطائفية وإنما كذلك في الارهابيين الذين تسلقوا موجة الطائفية ، وقتلوا حسين بعد ذلك بأيام على الهوية لإثارة الفتنة ، قتلوه رغم انه دافع عن الاعظمية يوم كانوا ينامون في بيوتهم ، قتلوه رغم أنه لم يتجاوب مع السلطات الأمنية التي ضغطت عليه ليدلي بأخبار كاذبة عن الاعظمية والاعظميين .
وقد بكت محلتنا كلها دماً على استشهاد حسين ، وشيعته باعتباره واحداً من أبنائها البررة ، ولم تجد أم علي من خيار أمامها سوى الفرار بأبنائها الباقين الى كربلاء .
- كيف أحوالكم في كربلاء ياأم علي ؟
- غير مرتاحين ، ونحن هناك مثل الغرباء ، قلبنا يحن الى الاعظمية ومحلتنا السفينة ، انتم أهلنا .
والله يمة ظافر عندما أراك في التلفزيون أفرح من كل قلبي كأني أرى احد أولادي ولكني لا أقدر ان اقول ذلك ، انت تعرف الوضعية .
- أعرف طبعاً ، المهم عندي ان تكوني انت وعائلتك بسلام .
ألا قاتل الله كل من أراد تمزيق صفنا وهدم وحدتنا .
بعد الاحتلال بثلاثة شهور ، وحالما عدت للبيت ، رأيت وجوما وجواً نفسياً لم اتعود عليه، ومحمد في حجر أمه .
- ما الأمر ؟
قالت لي أم محمد :
اليوم أخذ أخوك أحمد ولدي محمد الى الشط للسباحة فيه دون علمي ، كان عمه يريد ان يلهو معه ويعلمه السباحة ، ولكن في غفلة منه غرق محمد في الماء دون ان ينتبه لذلك عمه الذي أخذ يصيح عليه بعدما افتقده ولكن دون جدوى ، وفجأة قفز ( علي ابن ام علي بيت العرب ) الى النهر وأنقذ محمد وهو في رمقه الأخير ، وراحت ام محمد تبكي وهي تحتضن ابنها
- لقد أحضرت ذبيحة على سلامة محمد .
- بيت العرب أولى بالذبيحة ، فلتذبح تحت قدمي علي . ( قلت لها ذلك )
اليوم دعني أسألك يا علي ابن بيت العرب وانت مهجراً في كربلاء ، غريباً هناك ، وبعيداً عن هنا .
هل فكرت يا علي أن من تنقذه من براثن الموت هو محمد ابن ظافر العاني ؟
او هو محمد ابن وطنك الكبير ، ووطنك الصغير ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق