Translate

الجمعة، 14 نوفمبر 2014

(رقصة إسبانية) قصة قصيرة بقلم صفاء الشلبي



(رقصة إسبانية) قصة قصيرة بقلم صفاء الشلبي
‏ً‏
 القصة الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة الجولان للإبداع الأدبي  عام 2008

منشورة في مجلة الموقف الأدبي وفي بعض المواقع الأدبية الإلكترونية.


رقصة إسبانية
بقلم الكاتبة  صفاءالشلبي
سوريا

ازدادت القشعريرة في بدني الهالك وتصاعد معها ارتفاع للحرارة التي لم أكن أدري هل هي الجحيم أم أن الجحيم صار أنا ؟ لم أقو على الحراك, حتى أنني لم أستطع أن أشعر إلا أني أغيب في دُوار عميق لم أعرف له  قرار !!
كانت أنفاسي مضطربة, تارةَ ًسريعة وتارة ًبطيئة , كنت جالسا ًكالجنين منطويا ًعلى جسدي الكبير في رحم زنزانتي الصغيرة , إنها الحمّى !!
 طغت بهذيانها على بدني الدامي فاختلطت الأوجاع بأشكالهاوألوانها, حتى روحي كانت ممزقة الأوصال ! والموت صار المعشوق القريب البعيد .
تساءلت بحنين الأعمى :
هل الشمس مشرقة ؟؟
الشمسُ : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة
مشرقة : خبر مرفوع
آهٍ كم اشتقت للغتي
لغتي التي لم أسمع أحداً ينطق بها منذ إقحامي في هذا السجن,
 سجن الأجانب الغرباء عني عن ألمي وأبجديتي , وعدت أتسائل بقلقٍ :
 - كم الساعة الآن ؟
رغم أن فرق التوقيت بيننا وبينهم يجعلنا متقدمين عليهم بسبع ساعاتٍ إلا أن ساعتهم كانت تتقدم عليّ بسبع عذابات !!!.
بقيت مترقبا ًالإجابة إلى أن طرحت نفسها عندما طرق مسامعي نَعلُ حذاء السَّجان وهو يرتطمُ على الأرض بثقةٍ وسرعة كما لو أنه كان يقوم  برقصة ليقدم لأذنيّ متعة ًتتناغم مع إيقاع نعليِه, فأرقص أنا الآخر بنعال طرقات قلبي على أرض الروح الرعشى لا بد أنها السابعة مساءً ! فهذا هوالتوقيت الذي يصطحبون فيه أحد السجناء المجاورين إلى غرفة التعذيب,أما أنا فموعدي في التاسعة,إنهما ساعتان ويأتي السَّجان ليصطحبني قائلاً كعادته بسخرية :
السجين مائة وثلاثة ... إنه دورك الآن لتبدأ رحلتك الليلة, هيا إنطلق الى المتعة !!أخذ قلبي بالخفقان أعنف فأعنف إلى أن صار خوفي طقساً من طقوسِ الإستعداد لتقديم القرابين .
يا لرُعبِ الإنتظار!! ففي كل مرة أعرف فيها أن ساعةالتحقيق معي اقتربت,كنت أشعر بألم يفوق الألم الذي أتذوقه أثناء خوضي في الإستجواب وأساليبه الإرهابية .
يا لرُعبِ الإنتظار؟ أتراهم الليلة سيستخدمون الكهرباء؟؟ الكهرباء..
يا لهذا الإختراع العظيم !!..
لسعتني الفكرة فاختلجتُ بعُنفٍ شديدٍ وأنا أزدادُإنطواءً على جسدي الممزق!!شعرتُ بغياب الحمى قليلاً,فالخوفُ والقلقُ والترقبُ يَشُلّّون الحمى بكثيرٍِ من التساؤلاتِ والتوقعات التي قد تُصَوّرُ في مخيلتي كل ما ينتظرني .
كان وجهُ زنزانتي مُشَوهاً , لقد كانت مفقوءة العينين, وأنفها صغير بالكادِ يسمحُ بمرورِ كميةٍ قليلةٍ من الهواء تكفيني لأتنفسَ الصُّعدَاء , لقد كان لها آذانٌ فقط ! إنها الأرضُ والجُدران.
كنتُ أدركُ بساعةِ أذني المضبوطةِ على إيقاع خطواتِ السَّجان أوقاتَ طعامي المقزّز , ومواعيدَ اصطحابي  للتحقيق بكافة وسائله و أشكالهِ .
ازدادَ خفقانُ قلبي وأنا أعاودُ التفكيرَ في نوعيةالتعذيب هذه الليلة , إلى أن عادت الأصواتُ تطرقُ أذُني بتلك الخطى المقتربةالسريعة الطرق على الأرض ...
يـــا إلهي ! لقد أتى السجَّان ليصطحِّبني .. إنه دَوري الآن !..
يارَبَّ العرش قَوِّني !..
أَصْغيتُ برُعبٍ لاقترابه !!  !.. لكنْ الموسيقى بَدَت مختلفة هذه المَرَّة ,إنها خُطىً مُزدوجة.. إذن هما رجُلان لا واحد !!..
وسَمِعتُ صَرير باب الزنزانةِ المجاورةِ تماماً لزنزانتي يُفْتَحُ ليُلقَى في جوفِها الصغير جَسَدُ سجين ٍ آخـر تبتلِعُه .
وعادت الخُطى من جديد تطرق الأرضَ مسرعة.. شَعَرتُ أن قلبي كان يتوقف عند فواصل ِ السُّكون بينَ الخُطى ليُعَاودََالطَّرْقَ مع طرقها .... يالهذاالرعب البربري!!! لكنّ الخُطى كانت تزدادُ سُرعَة في ابتعاد !!
ياإلهي ! ماالذي يحدُث ؟ لم يَأتِ السجّان ليصطحبني!.. لقد ذهب !.
تنهدتُ بارتياح ٍحذرٍ محاولاً إيجادَ تفْسير لعدم اصطحابهم لي , هدأتْ طرقاتُ قلبي واسترخى جسدي قليلاً بعد طول خوفٍ وترقبٍ وتَعَبْ على مساحةٍ كانت تحيطُ بجسمي كالقبر.
رُحتُ أتسَألُ مجدداً, وأنا بحالةِ استرخاءٍ جسدي,استغربتُ تغييرَ سلوكَهم نحوي. وظلّ مِنْجَلُ الإستفهام يحصد قدرتي على التفكيرإلى أن غطيتُ في نوم ٍ عميق ٍمريح ٍلمْ أحظ به منذ أكثرَ مِن ثلاثة شهور.
مرت ساعاتٌ كثيرة إلى أن استيقظت, كان استيقاظي كمن أفاقَ من سباتٍ عميق , وزالتِ الحمى نهائيا ً. عادتِ التساؤلات تبرقُ في سماءِخاطري.
ياتـُرى كمِ الساعة الآن؟ وكم من الوقت قضيت في النوم؟؟..
وللمرةِ الثانية طَرَحَت الإجابةُ نفسَها مِن خلال صوتِ الخُطى, إنه السجَّانُ قادم, شعرتُ بتوترٍ مرعبٍ بسببِ اقترابِ دوري.
لابدَّ أنها السابعةُ مساءً..
اقتربَ السجَّانُ وفتحَ الزنزانة المُجَاورة تماماًلزنزانتي واصطحبَ السجينَ الآخر لتـُصبحَ الخُطى مزدوجة في ابتعادِ .                        
مرَّتْ ساعتان وعادتِ الخُطى المزدوجة في اقتراب ليلـْقى السجينُ الآخر في زنزانته . إنها التاسعة الآن! لابد أن يصطحبني معه؟!
لكنَّ الخُطى المُفْرَدة ذهبت بإيقاعِها في ابتعاد..ولم يأخذني السَجَّان!
شعرتُ بغرابةْ الأمر؟ ماالذي يحصل يا ترى؟ البارحة..واليوم؟!؟
هل نَسَّوْا وجودي؟ أمْ أنَّهم يُخططون لشئ ٍ آخر؟؟!
تَكَاثر شُعوري بالإرتياحِ وبدأت أقنِعُ نَفسي بفكرةِأنَهم نَسَوْني أوتناسَوني, المهم أنه مامن تعذيب. وبعد حين ليسَ بطويلِ الأمَدسَمعتُ طرقَ خُطوتين متتاليتين على الأرض, طرَقَ قلبي برعبٍ طرقتين,شَنّفتُ أذنيّ بإصغاءٍ خائف, كان الصوت قريباً مني لكِّنه لمْ يأتِ من بعيدٍ مقتربا ً!ياللعجب!!! إنهما طرْقتانِِ فقط!! طرقْتُ بقدميَّ على الأرضِ بذاتِ إيقاعِ الخطوتين لأَسْتدرك الأمر,فأتاني الصوتُ مُجيباً بطرقتين متتاليتين مُمَاثِلتَيْن!.... طرقت ثلاثا ً..ً طـُرِقَ ثلاث !!...
اسْتدْركتُ أخيراَ أن هذه الطرقات هي طرقات قدَّمَي السجين الموجود في الزنزانةِ المُلاصِقَةِ لزنزانتي.
شَعَرتُ بمُؤانَسَةٍ لم أعرِفْها مذْ دَخَلتُ هذاالسجن! شعرت أخيرأً أنني لستُ وحيداً! مرت الليلةُ الأولى لشعوري بالمجاورة وأنس المجاورة.
وأتى يوم آخر, ونِعالُ السجان تطرق الأرض فقط لاصطحاب جاري, وعِنْدَ آخر الليل رُحتُ أستأنِسُ بسهرة ٍ مُسامرة ٍ خاصةبالسجناء فقط :
طرقتُ الأرض بقدمي مرة.. طـُرقت الأرض مرة, طرق جاريالأرض بقدمه مرتين فمرة... طرقت أنا مرتين فمرة, كان نوعاً من الخطاب والتحاور بيني وبين جاري السجين, كانت لغة لايعرفها أحدٌ سوانا, كنا نتحدث كل الأحاديث التي يمكن أن تخطر ببالنا!حتى أننا كنا نغني معاً أيضاً !.
لقد كانت أشبه برقصة إسبانيةتعلّمناها سوية لتشكل لدينا لغة الحوار والمؤانسة. وأخذت استجابة طرقات قلبي للتناغم مع طرقات قدمي جاري,أخذت تتحول من طرقات رعب عند سماع خطى السجان إلى نبضات فرحة بأداء رقصة إسبانية مع جاري السجين.
ومرت أيام ولم يأت السجان ليصطحبني, كان يصطحب فقط جاري!!ومع مرور الأيام صارت رقصتنا المشتركة هوية واحدة لآلامنا الواحدة!
وفي إحدى التاسعاتِ مساءً أتى السجان ليصحبني قائلاً:مئة وثلاثة..
منذ زمن بعيد لم تحصل على المتعة!! هيا قم فبانتظارك متعة جديدة اليوم. وساقني معصوب العينين, مقيد اليدين إلى الأمام, ومُكبَّلَ الرِّجْلَيْنِ بسلاسلَ لا تسمحُ لي سِوى بأن أخطو في مَشيي.
انتابني إحساسٌ أنّني ذاهبٌ إلى خَلاَصي الأخير! لم أكنْ خائفاً ككل مَرّة بل شعرتُ أنها النهاية, فإما سيطلقون سراحي ,وإما أنهم سيقتلونني أو يُعْدِمُونني بأحد أساليبِ قتلِهم السادية.
قادَني إلى غرفةِ التحقيق ثم أزال العُصابة عن عينيَّ ليَحرقَ الضوءُ المُوجَّهُ عليَّ عينيَّ اللَّتين لم تَرَيا النور لأكثر من ثلاثةأسابيع! لم أستطع أن أرى شيئاً إلا ضوءَ المصباح الحارقِ كنارِ جَهَنَم..
وفجأةً سمعتُ المُحَقِقَ يأمُر أحَدَهُم بلُغَتِهما الأجنبية: أحْضِر ابنَ عِرْقِه ؟
ذلك السجين رقم مئة و أربعة, أَطْلِقْهُ عليه ليَقْتُلَه ودَعْنا نتفرَّجُ معاً ونَتَسلّى. وسَلَّطوا الضوءَ على مساحةٍ من المكان كما لو أنها كانت حَلَبَة لمصارعةٍ حتى الموت! وإذ تراءَى أمامي سجينٌ ضخمٌ بَدَت على ملامِحِه شراسةُ وحُوشِ كلّ الأساطير! كان مُكَبَّلاً بسلاسلَ طويلةٍتمتدُّ مِنْ رأسِه وحتى أخمصِ قَدَمَيه, كانت واسعة لدرجةٍ تسمحُ له بالقتالِ مصارعة حتى الموت, كان يزمجرُ غَضَباً كالوحوش البريَّة . أفصَحَتْ تضاريسُ جَسَدِه عن آثارٍ عميقةٍ لعمليات تعذيب لا تَصَوُّرَ لها! حتى ملامحُ وجهِهِ كانت تتفجَّرُغضباً مقهوراً, لابد أنه تَلَقَى أنواعاً مُحَرّمة من التعذيب أثَرَتْ على جسده و عقله إلى أن حَوَّلَتْهُ إلى حيوان ٍ شَرسٍ قادرٍ إذا ما أُمِرَ على افتراس أيّ أحدٍ بقوة عضلاته. إنهم يُطْلِقونَه عليَّ كنوعٍ جديدٍ من التعذيب! يا إلهي كيف سأصارعه؟؟ أو حتى أبْعِدُهُ عَنّي وأنا مغلولُ اليدين والقدمَين ؟؟؟ سأموتُ إذن ومن شِدَة الضرب!
شَعرتُ برُعبِ المواجهة و بدأ قلبي يطرق خوفاً كقرع الطبول! صَمَتَ المحققون والسَّجَانون ليبدؤوا بمشاهدةِ العَرضْ!
اقترَبَ هذا الضخمُ خطوتين هادئتين وهو يزمجرُاستعداداً للهجوم تراجَعْتُ بخوفٍ خطوتين هادئتين للوراء!
اقتربَ خطوةً أخرى.. تراجعتُ خطوة. شعرتُ أنّ طرقاتِقَلْبَيْنا كانت تدقُ بإيقاعٍ واحدٍ يجمعُ تناقُض رُعبي وثَورَة غضبه! وما أنْ هَمَّ بالانقضاضِ عَلَيَّ حتى انْفَجرتُ رُعْباً مِنه فما كان لي إلاَّ أنْ تدافعتُ بسرعةٍ خَلفاً بضْعَ خطواتٍ مُثقَلَةٍ بسببِ السلاسل القصيرةِ في قَدَمَيَّ, فتوقف الضخمُ عن الحركةِ فجأةً وهو يتأملني باستدراكٍ , ثم طَرَقَ على الأرض بقدميه مرَّتين فمرَّة كما لو أنه كان يُحاول أن يُمَيْزَني ؛ فطرقتُ بقدميَّ على الأرض مرَتين فَمَرَّة!!! اختفى تناقضُ طرَقات قلبَيْنا لتهدأ ثورتُه ويزُولَ خَوْفي, وينبضَ قَلبانا بِذاتِ الإيقاع!.
طرَق الضخمُ ثلاثاً مُتتاليات, طُرَقَتْ ثلاثاً متتاليات!!..سَرَت القشعريرةُ في جسدي,وما من حُمّى!!.. وأخذت ملامحُ الضخم تتحولُ من شراسةٍإلى لهفةٍ مكسورةٍ وصارت عيناهُ تدمعان كعَيْنَي طِفل ٍ وديعٍ رأى ذويه بعد طول غياب !!... واستَدَلَّ كُلّ مِنا بحدْسِ تَناغمُ طرقاتِ قلبهِ مع إيقاع طَرَقاتِ قَدَميْ الآخر على الرقصةِ الإسبانية ؛ اقتربنا من بعضنا باكِيَيْن وتعانقنا....رغم تشابك السلاسلِ في أيدينا وبينما كنا نمتزج في جسدٍ واحدٍ...
ودموع واحدة ..
كانت عيون المتفرجين تختنق بنقمةٍ باردةجامدة.

 صفاء الشلبي
سوريا
2014



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق